* بقلم فاطمة أحمد الأحد, 09/12/2012

مخاض الثورة اليمنية كان عسيرا.. وطريقها كان مليئا بالأشواك ومحفوفا بالمخاطر.
تعرض الصحافيون اليمنيون للكثير من اللحظات الصعبة أثناء الثورة. فإيصال الحقيقة كان يتطلب شجاعة وجرأة ..
توفيق الحميري مدير صحيفة "الديمقراطي" التابعة للحزب، هو أحد الصحافيين الذين كانوا شهودا على الحدث، روى لنا مشاهد من أحداث عاشها بنفسه تمثلت في الإختطاف والإعتقال والمداهمات الليلية.
تجربته هذه تمثل جانبا يسيرا من معاناة الصحافين اليمنيين الشرفاء الذين حاولوا نقل الحقيقة كما هي.
الإختطاف
في مساء الحادي عشر من مارس 2012 كانت ساحة التغيير تعج بالجماهير. فصعدت إلى المنصة وألقيت كلمة حذرت فيها شباب الثورة من تبعات ما قام به جهاز الأمن السياسي (المخابرات) من إطلاق سراح 82 سجينا من تنظيم القاعدة، كان النظام قد تحاور معهم قبل خروجهم من السجن. فنبهت الشباب إلى الحذر من إمكانية اقتحام هؤلاء للساحة، بتنسيق مسبق مع النظام.
بعدها، وأثناء عودتي إلى المنزل، فوجئت بسيارة تقترب مني بطريقة مريبة ثم تصدمني من الخلف. سقطت على الأرض وأخذت أصرخ بأعلى صوتي. وخلال لحظات كنت محاطا بأربعة أشخاص ظننتهم يريدون إسعافي. إلا أنني فوجئت بأحدهم يضع مسدسه على خاصرتي ويقول - بنبرة تهديد- "لا تحاول المقاومة، هناك ثلاثة مسدسات مماثلة وكلها كاتمة للصوت".
أدخلوني السيارة وقام أحدهم بتعصيب عينيي وربط يديي "بغترته". سألتهم من أنتم وماذا تريدون؟ لم أكملها حتى صفعني أحدهم على فمي قائلا "ممنوع الكلام وإلا "فطرنا لقفك" (بمعنى هشمنا فمك). استمر بنا السير حوالي ثلاث دقائق وكنت متنبها لحركة دوران السيارة والمسافة التي تقطعها، لمعرفتي الدقيقة بالشارع الفرعي الذي أخذنوني منه. وحين توقفت السيارة، أدركت أننا بمكان مجاور لساحة التغيير. فقد تناهت إلي سمعي هتافات الشباب المرابطين في الساحة.
ظننت للوهلة الأولى أن المكان الذي أدخلوني إليه هو قسم للشرطة. لكنني عرفت بعد ذلك أنه منزل. وبمجرد وصولنا، قاموا بسلب هاتفي وبطاقاتي الشخصية ومقتنيات أخرى.
بدأوا باستجوابي عن كيفية حصولي على المعلومات التي قلتها على منصة التغيير، فأجبتهم بأنه مجرد توقع من خلال قراءتي لأساليب النظام.. استمروا في طرح الأسئلة حتى ساعة متأخرة من الليل. وخلال ساعات التحقيق الطويلة، تعرضت لشتى أنواع التعذيب من ضرب وركل وإهانات لفظية، وكان أحدهم يصرخ في وجهي قائلا "بقيت لحظات وسنبيد ساحة التغيير ومن فيها."
لقد نفذوا وعيدهم فجر ذلك اليوم في 12 مارس فقاموا باقتحام الساحة. ومن مكاني، في ذلك السرداب الضيق، جاشت في نفسي مشاعر مختلطة وأنا أستمع إلى ما يجري في الساحة. كنت أبكي عندما أسمع صوت سيارة الإسعاف وأقول هذا شاب أصيب أو استشهد، وعنما أسمع الهتاف العظيم "الشعب يريد إسقاط النظام".. كنت أبكي فرحا وأقول: "لقد صمد الشباب".
ظل الوضع على ما هو عليه مدة أسبوع كامل، وكانت الظروف سيئة جدا. كنت أشرب من حنفية "الحمام"، وآكل من بقايا وجبات بسيطة كانوا يقدمونها لي.
في جمعة الكرامة، أي بعد أسبوع من اختطافي، حدثت مواجهات عنيفة بين الثوار المعتصمين بساحة التغيير وبين قوات الأمن. استطاع الشباب على إثرها اقتحام المبنى الذي كنت محتجزا فيه مع آخرين ونجحوا في تحريرنا.
إعتداءات وعبث بالمقتنيات الصحافية
في الثالث من مايو 2012 وبينما كان العالم يحتفل باليوم العالمي للصحافة، اقتحمت مجموعة مسلحة مكونة من عشرين شخصا يقودهم ضابط أمن وآخر من الجيش، مقر الصحيفة التي أديرها في الساعة الثانية عشرة ليلا. وقاموا بنهب كافة المقتنيات الصحيفة من أجهزة وأدوات ووثائق وهواتف خاصة بنا. حتى الممتلكات الشخصية قاموا بمصادرتها. وإلى الآن، لم تتم محاسبة منفذي ذلك الإقتحام وهم ضباط نافذون في النظام الحالي.
توأم من رحم معاناة
وفي ساعة متأخرة من ليل الثالث والعشرين من شهر يونيو 2012، غادرت مكتب الصحيفة متوجها إلى بيتي، وإذ بمجموعة مسلحة تستقل سيارة من نوع "هيوليكس". وتوقفت السيارة ونزل منها أربعة أشخاص ملثمين، انهالوا علي بالضرب فشجوا رأسي وكسروا كتفي. كانوا يرددون "أيها الملحد، أيها المشرك، أنت تسب العلماء وتسيء إليهم". كسروا جهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بي وتركوني ملقى على الأرض، فاقدا الوعي، إلى أن جاء رجل من أفراد الشرطة الخيرين فقام بإسعافي.
أوصلني إلى المستشفى ووضع مسدسه رهنية لدى محاسب المستشفى مقابل نفقات العلاج. وفي صباح اليوم التالي، أفقت وإذا بشقيقي يجلس بجاني فسألته هل علمت زوجتي بالحادثة، فأخبرني قائلا "لا تقلق يا زعيم هي بالقرب منك، إنها في قسم التوليد بهذا المستشفى وقد وضعت لك طفلين توأمين".
هذه الواقعة جاءت على خلفية نشرنا خبر يقول إن الجيش عثر على جثث لمقاتلين من تنظيم القاعدة في محافظة أبين يحملون جنسيات غير يمنية وقد دخلوا البلاد بموجب استقدام من أحد مشايخ الدين اليمنيين.
في ضيافة الأمن السياسي.. مرة أخرى
قام أهالي بعض المعتقلين في السادس من أكتوبر 2012 بتنظيم مسيرة احتجاجية علي أوضاع أبنائهم. كنت موجودا هناك أمام مقر الأمن السياسي (المخابرات) لتغطية هذا الحدث. فقامت مجموعة من الأمن باعتقالي وضربي. والتوت يدي اليمنى نتيجة عنفهم.. أغمضوا عيني وأخذوني إلى داخل زنزانة، وبعدها تم التلفظ بمسبات وألفاظ بذيئة وأجروا معي تحقيقا استمر لساعات طويلة. وبعد اعتقالي قام أحد أعضاء الحزب الديمقراطي الذي كان مشاركا في المسيرة بتبليغ وسائل الإعلام والصحيفة التي أديرها، فتم نشر الخبر وتناولته الصحف والمواقع وهو ما ساهم في سرعة الإفراج عني.
أثناء الاعتقال، هددني أحد المحققين بأنه إذا كررت القيام بتغطية أو نشر أي مواد عن المخابرات، فإن أهلي سيقفون أمام نفس المبنى لعدة سنين وهم يطالبون بالإفراج عني.
ظروف العمل الصحافي في اليمن ما بعد الثورة
لا توجد اختلافات جوهرية واضحة في ظروف العمل الصحافي قبل وبعد الثورة. فالكثير من الصحافيين –وأنا من بينهم- يعتقد أن الثورة لا تزال مستمرة وأن التغيير الذي ننشده لم يحدث بعد. فالعوائق التي كانت تقف أمام الصحافي لا تزال موجودة. هناك تحسن فقط في كيفية الحصول على المعلومات من خلال سهولة التواصل وتوفر الوعي لدى الناس عبر شبكات التواصل الإجتماعي في نشر ما يدور حولهم. ورغم ذلك، لا تزال المظاهر المسلحة والإنفلات الأمني يشكلان عقبة في طريق الوصول إلى الحقيقة. فالصحافيون لا يأمنون على حياتهم أو وظائفهم، نظرا لغياب دور الأجهزة الأمنية في حماية الإعلام. بل إن الأجهزة الأمنية لا تزال تتربص بالصحافيين وتقيد حريتهم. وبالإضافة إلى كل ذلك، يمثل تدني مستوى دخل الصحافي المادي عقبة إضافية وتحديا حقيقيا يمنعه من تحقيق كامل لرسالته الإعلامية.
ملفات محظورة على الصحافيين..
لا يخفي على أحد ممن يتابعون الشأن اليمني أن بعض الملفات تمثل حقل ألغام بالنسبة للصحافيين. ولعل أبرز هذه الملفات ملف "الإرهاب والجماعات المسسلحة"، وأكثر الصحافيين القابعين الآن في السجون هم ضحايا الولوج في هذا الملف الشائك. وهناك موضوع الفساد المستشري في الدولة الذي تغذيه طغمة من أصحاب النفوذ والمناصب الكبيرة. وتفرض بعض المؤسسات الإعلامية رقابة ذاتية على صحافييها، فتقوم بتقييد العمل المهني تجاه قضايا معينة دون غيرها. خصوصا إذا كانت هذه القضايا تخص هيئات حكومية أو شخصيات نافذة. وتمنع أحيانا مواد إخبارية حقيقية من النشر، لأنها قد تتسبب في متاعب للجهة الإعلامية من قبل من يعنيهم الأمر. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض التيارات السياسية والإجتماعية لا تقبل أن تقوم الصحافة بتوجيه النقد للمؤسسة الدينة. وإثارة أي من هذه المواضيع قد يعرض الصحافي للإختطاف أو يلقي به في غياهب السجون لمدة قد تطول! فلا وجود لجهة حقوقية أو تشريع يردع أو يمنع مثل هذه الإنتهاكات، ودور نقابة الصحافيين اليمنيين لا يتجاوز بيان الإدانة في حال تعرض أحد الصحافيين لاعتداء.
ويظل الصحافي اليمني يركض وراء الحقيقة ويسعي لنقلها مهما كلفه ذلك من ثمن، ومهما بذل في سبيل ذلك من تضحيات.
|